حياة المحبة الكاملة
ابونا متى المسكين
مقدمــة:هذه الكلمات حصَّلتُها من قراءاتي في كتاباتالقديس أُغسطينوس والقديس يوحنا ذهبي الفم، ومن تأملاتي الخاصة، وقد دوَّنتهالنفسي, ولكن ما كدت أنتهي منها حتى دفعتني هذه الكلمات دفعاً أن أُقدِّمها لجميعالناس؛ ليشربوا، لعل المحبة تعود إلى قلوب الناس، فيقل الإثم، ويستنيروا بمعرفة الله. أيها الباحثون عن اللهكفُّوا واهدأوا، اتركوا العقل. فقد وجدنا شيئاً نستطيع أن نحسه بالقلب ونقول: هذاهو الله. أحبوا، أحبوا، أحبوا فـ «كل مَن يحب فقد وُلِد من الله (من جديد) ويعرف الله. ومَن لا يحب لم يعرف الله،لأن الله محبة» (1يو 4: 8،7).
+++
المحبة تُشتهى+ «إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة، تُحتَقَر احتقاراً» (نش 8: 7).نماذج:
مصدر المحبة:
الشمس تُشرق كليوم، والسماء تُمطر في أوانها، وخيرات الرب الإله تعُم المسكونة كلها. في كل صباحتتجدَّد علينا مراحمه، ومن جيل إلى جيل يتحدث الناس عن صلاح الله.لقد أحبنا الله، أحبناجميعاً. لم يُفرِّق في حبِّه بين أشرار وصالحين، أو بين أبرار وظالمين؛ بل جعلخيراته هذه لكل نفس حيَّة، الكلُّ يشبع من رضاه. وهكذا سيظل الأشرار والظالمونيتمتعون بخيرية الله وصلاحه مدى حياتهم في هذا الدهر. والله في هذا غير نادم، لأنفي هذا كمال محبته: «أحبُّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مُبغضيكم،وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي فيالسموات، فإنه يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين... فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كاملٌ» (مت 5: 44-48).ولكن محبة الله لا يمكنأن تقف عند هذه الحدود المادية الضيقة، ويلزم أن يظهر سموها وجلالها في دائرة أعظم،لابد أن تتخطَّى الحدود المادية لتتخذ مجالها في العالم الآخر في الحياة الأبدية،فهذا يتناسب جداً مع اتساعها غير المحدود: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنهالوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).وهكذا نرى كيف امتدَّتالمحبة نحو اتساعٍ يليق بها، وأَهَّلتنا للتمتُّع بخيرات أبدية وحياة خالدة مع مصدرهذه الخيرات.إن كانت الدعوة للحياةالأبدية للتمتُّع بخيرات السماء محصورة في شكلها للذين يؤمنون بابنه فقط، فهي لمتعدم الاتساع في حقيقتها، إذ أنها لكل الذين يؤمنون. ومما يُزيد هذهالمحبة جلالاً، أنها لم تكن سهلة في إعطائها وتقديمها لنا، بل استلزمت من الآب ”بَذْل“ ابنه الوحيد، وإن كنا لا نُدرك الآن معنى هذه الكلمة: ”بَذْل“ بالنسبة للهالقادر على كل شيء، ولكن لا يَخْفَى هذا المعنى على مطالب المحبة التي أحبنا بهاالله.ومن أجل هذا أيضاً صارالدخول إلى استحقاقات هذه المحبة، أن يستلزم من جانبنا الإيمان بهذا البَذْل،والإيمان بمَن قام بتكميل واجبات المحبة ومطالبها، يسوع المسيح، الذي تحمَّلهاوحده، الابن الذي بدوره بَذَلَ حياته.النموذج المساوي: جاء الابن إلىعالمنا ليُتمِّم رسالة محبة الآب لنا. بَذَلَ الآب ابنه الوحيد الذي ارتضى بذلك! وثبَّت وجهه نحو الصليب ليُتمِّم الرسالة حتى النهاية.ولكنه اشترك معنا فياللحم والدم: «فإذ قد تَشارَك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما» (عب 2: 14)، فارتبط هو أيضاً بالحب معنا، فصار سرور الصليب أمامه سرورَيْن: سرورتتميم مشيئة الآب، وسرور تتميم واجبات محبته لنا: «إذ كان قد أحبَّ خاصته... أحبهمإلى المنتهى» (يو 13: 1). ولذلك كان الصليب أمامه ذبيحة طاعة وحب، في سبيلهمااستهان بالخزي واللطم والبصاق، فجعل وجهه كالصوان، وأحنى ظهره للضاربين، فأطالواضربهم كما شاءوا، ولم يمنع رأسه عن المتآمرين بالهُزء، فوضعوا إكليلاً من الشوكعليها بإحكام، وقدَّم يديه ورجليه للذين خَلَت قلوبهم من الرحمة حتى أكملوا شهوةنفوسهم وصلبوه.في كل هذا لم تنقصمحبته للبشرية كلها ولا قَيْدَ شعرة، ولا لهؤلاء الصالبين أيضاً، إذ قال وهو على الصليب: «يا أبتاه، اغفر لهم» (لو 23: 34).كانت حياته كلها آيةللمحبة، ولم تستطع أقسى المعاملات التي عومل بها من الكتبة والفرِّيسيين والكهنةورؤساء الكهنة أن تُفقده شيئاً من محبته؛ بل ولم تستطع خيانة التلميذ الذي عاش معهثلاث سنوات أن تجعله يفتر في محبته. وهو حينما علم أن ساعته قد جاءت، جلس إلىتلاميذه ليأكل معهم الفصح. كان فيهم يهوذا والثلاثون من الفضة في جيبه، وفيهم بطرسالذي سيُنكره بعد ساعة، وبقية التلاميذ الذين سيتركونه ويهربون جميعاً! وهو عالمٌبكل هذا، وبالرغم من ذلك جلس يُحدِّثهم عن محبته لهم، وكيف أنه سيذهب ليُعدَّ لهممكاناً ثميأتي ليأخذهم!كان قلبه مُثقَّلاًبالحزن، ولكنه كان مملوءاً بالحب!نظر إلى صالبيه ونظرإلى قلبه، فوجد قلبه يتسع لهم جميعاً!فطلب لهم المغفرةوأعطاهم دمه الذي سفكوه ليشربوه فيحيوا!كان أول عمل اهتم بهبعد قيامته هو مقابلة بطرس ليؤكِّد له أنه لا يزال يحبه بالرغم مما حدث!! وأعطاهمفاتيح ملكوت السموات كبقية إخوته تأكيداً لصفحه عن إنكاره له، وأوصاه أن يُثبِّتإخوته، ويرعى غنمه، كأنما لم يحدث شيء!! بيَّن له المحبة، أنها ليس فقط تصفح فحسب،بل وتشجِّع وتكرِّم أيضاً.كانت آخر وصية خرجت منفمه: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 12)، ثم عاد فكررها: «بهذاأوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 17). وكانت آخر صلاة قدَّمها من أجلناجميعاً هي هذه: «وعرَّفتهم اسمك، وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به،وأكون أنا فيهم» (يو 17: 26).قال الرب يسوع هذا وخرجمع تلاميذه إلى عَبْر وادي قدرون حيث كان هناك بستان، دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذامُسلِّمه يعرف الموضع.وإن كانت البشرية تعتزبكلام المسيح ووصاياه، فهذه أعز الكلمات والوصايا، فهي آخر وصية لنا، وآخر صلاة منأجلنا التي بعدها ذهب المسيح وأكمل واجبات المحبة على الصليب.أول ثمرة: ولقد وقعت حبةالحنطة وماتت لتأتي بثمر كثير، وكان اسطفانوس رئيس الشمامسة أول شهيد للمحبة، لأنهكان أول شاهدٍ لها.لقد وقف اسطفانوس بينالمشتكين عليه في مجمع رسمي أمام رئيس الكهنة وشهد للمسيح الذي أحبه. ولم يعبأبصرير أسنانهم أو حنق قلوبهم، ولا للضربات القاتلة التي كانت تنهال عليه. ولما أحسأنه لم تَعُد فرصة أخرى أو قدرة على الكلام والشهادة، صرخ بصوت عظيم: «يا رب لاتُقِم لهم هذه الخطية» (أع 7: 60). فكانت حياته شهادة للمسيح وموته شهادةللمحبة!شهادة الذي أنكر: هذا بطرس، الآن قدملأت المحبة قلبه، واشتعلت الحياة كلها بحب سيده، فقد كان شاهداً لآلام المسيح حسبقوله: «أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلَن» (1بط 5: 1). بطرس أعطى وصية مثل سيده ولكنه شدَّد فيها على المحبة، لأنه رأى ضحيتهاوذاق ثمرتها: «طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء،فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة» (1بط 1: 22).هذا هو بطرس الذي لماأرادوا أن يصلبوه رفض أن يُصلَب كسيده، بل طلب أن يصلبوه مُنكَّساً!! لقد دخلتالمحبة قلبه، وانسكبت في أحشائه بعمل الروح القدس، فحوَّلت الإنكار إلى إصرار،والهروب إلى استشهاد!حبيب المحبة: يوحنا الرسول حبيبالمحبة، عاش رسولاً للمحبة، يُنادي بها حتى آخر نسمة من حياته! كتب رسالة كاملة عنالمحبة، ولما أراد كتابة رسالة ثانية كتبها عن المحبة، وكتب رسالة ثالثة فكانت عنالمحبة أيضاً!ظل يعظ شعبه بأفسس عنالمحبة، حتى ملَّت الجماهير وطلبوا منه أن يقول لهم كلاماً جديداً، فقال لهم: ”وصيةجديدة أقولها لكم: أحبوا بعضكم“. وفي أواخر أيامه كانوا يحملونه إلى الكنيسة ليقولكلمة واحدة هي هي: ”أحبوا بعضكم“. أراد يوحنا أن يُكرِم المحبة، فلم يستطع أنيُكرمها بأكثر من أن يضعها بعد كلمة ”الله“: ”الله محبة“.مُضطهِد المحبة: + «شاول شاول،لماذا تضطهدني؟...مَن أنت ياسيد؟...أنا يسوع الذي أنتتضطهده» (أع 9: 5،4).ومن هذه اللحظة صارشاول ”بولس“ أسير المحبة. وبدل أن كان ينفث تهديداً وقتلاً لتلاميذ الرب، صار قلبهيذوب محبة ورِقَّة: «ماذا تفعلون؟ تبكون وتَكْسِرون قلبي، لأني مستعدٌّ ليس أنأُربط فقط، بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع» (أع 21: 13).جعلته المحبة يحترقلأجل الآخرين: «مَن يضعف وأنا لا أضعف! مَن يعثُر وأنا لا ألتهب» (2كو 11: 29)! وقدامتزجت به المحبة من نحو اليهود الذين رفضوا المسيح إلى درجة جعلته يشتهي أن يكونمحروماً من المسيح وهؤلاء يؤمنون: «أودُّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجلإخوتي أنسبائي حسب الجسد...» (رو 9: 3).ثم عاد يقول إنه لا شيءيفصله عن المسيح متحدِّياً العالم والشيطان وكل قوة في الأرض وفي السماء حتىالمستقبل المجهول: «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أمعُري أم خطر أم سيف؟!... فإني متيقِّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساءولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أنتفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 35-39).نظر بولس إلى أعماق كلالناس، بل أنفس الناس، فوجدها ميتة إذ كانت عادمة من المحبة. نظر إلى الإيمان،فوجده لا شيء بدون المحبة. ورأى فلسفة الكلام إذاوصلت إلى حكمة الملائكة، فهي بدون المحبة جهالة. وكل نبوَّة ومعرفة الأسرار، هيبدون المحبة كذب ورياء. وكل تضحية حتى إذا بلغت التخلِّي عن جميع الأموال وتقديمالجسد للاحتراق، فهذه أيضاً بدون المحبة لا تنفع شيئاً (1كو 13: 1-3).هذا هو شاول لما ذاقالمحبة! أو هذه هي المحبة لما مسَّت شاول!شعلة من نار: هذا أُغسطينوس الذيركض في ميدان الفساد والمروق عن إلهه حتى كلَّت قدماه! ولما فتح قلبه للنور، انسكبفيه حتى صار شعلة تنير لكل الأجيال!وإذ تطلَّعت عين الساهرقدوس إسرائيل، حنَّت أحشاؤه ونظر إليه والشيطان قائم عن يمينه ليُقاوم. فقال الربللشيطان: «لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب... أفليس هذه شعلة مُنتشلة منالنار» (زك 3: 2،1).وصار أُغسطينوس قيثارةالمحبة. بحث عن المحبة وجدَّ في إثرها حتى وجدها في أعماق الله. أخذ يتعقَّبها فيكل الميادين، فوجدها نافعة لكل شيء وبدونها ليس منفعة لشيء! ولما وثق من قوة المحبةوفاعليتها، قال حكمته المشهورة: ”حِبّ واصنع ما شئتَ“!وظل أُغسطينوس يعظ شعبهعن المحبة في عشر عظات متوالية، فلم يملَّ الشعب مما يسمع، ولا هو كَلَّ منالكلام!وقد استهل عظاته بهذاالكلام: [كل مَن سمع كلماتيووجدها عنده سيفرح بها! فتصير له كنقط الزيت على شعلة تزكيها وتُلهبها! فتنمو عندهوتثبت! وللبعض ستصير لهم هذه الكلمات كالنار لخشب مستعد للوقود! تلمسه فيشتعل،ويستكمل ما كان ينقصه. المحبة فرح لسامعيها، وسلام لِمَن يجدها]!
”جعلتُك أباً لجمهور من المُحبين“:
هذا بولا القديسالذي اضطرمت المحبة في قلبه، فضاق العالم عن أن يسعه، وخرج هائماً على وجهه يطلبوجه الله في البراري والقفار حتى وجده! فارتاحت نفسه: «مَن هذه الطالعة من البرية،مستندة على حبيبها» (نش 8: 5).عاش مع إلهه الذي أحبهكل أيام حياته متغرِّباً عن العالم حتى مات! فصحَّ فيه أيضاً قول صاحب نشيدالأنشاد: «أُحلِّفكُنَّ يا بنات أورشليم: أَلاَّ تيقظن ولا تُنبهن الحبيب حتى يشاء» (نش 8: 4). فلم يستيقظ بولا إلاَّ في العالم الآخر بين أحضان مَن أحبته نفسه، فعاشمئة واثنتي عشرة سنة لحبيبه ولحبيبه وحده، شاهداً بمحبته حتى الموت.وهذا النموذج الصغيرالهادئ، دفع من بعده الآلاف من البتوليين: منهم الشباب، ومنهم الشيوخ، ومنهمالأتقياء، ومنهم اللصوص والزواني، ومنهم أبناء الملوك، ومنهم بنات الملوك متخفياتفي زيِّ الرجال!وهؤلاء اتَّقدت فيهمنار المحبة، إذ سمعوا خبر المحبين الذين سبقوهم، فتحركت قلوبهم بكلمة أو بعظة أوبيقظة ضمير أو بصوت الحبيب يدعوهم إلى حياة أفضل! فباعوا كل ما عندهم مسرورين،وباعوا العالم راضين، ثم باعوا أنفسهم للحبيب وعاشوا كما عاش أبوهم الأول هائمين فيالبراري والقفار والجبال الموحشة وشقوق الأرض، مكروبين معتازين من أجل عِظَم محبتهمفي الملك المسيح!قالوا لأحدهم: ”إن أباكمات“. فقال: ”صَهْ! إن أبي لا يموت“. وقال أحدهم: ”أنا لا أخاف الله“. فقالوا له: ”إن هذا الكلام صعب يا أبانا“. ففسَّره لهم وقال: ”لأني أحبه «والمحبة... تطرحالخوف إلى خارج» (1يو 4: 18)“.هؤلاء عرفوا المحبة،فعرفوا الله. ولما ذاقوها انفتحت أذهانهم وعرفوا أنه هو الرب، فالتهبت قلوبهم فيهم،وأخذوا ينشدون للحيِّ من صباح حياتهم إلى المساء، وهم يُرتِّلون ترنيمة موسى عبدالله وترنيمة الخروف قائلين: «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر علىكل شيء، عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين» (رؤ 15: 3).شهود من تحت المذبح: + «رأيت تحت المذبحنفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم... فأُعطوا كلواحد ثياباً بـِيضاً وقيل لهم: أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً، حتى يَكْمَلالعبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم» (رؤ 6: 9-11).من كل شعب ومن كل لسانومن كل أُمة، كان للمحبة التي انسكبت في قلوب المؤمنين بالمسيح شهودٌ، كان مننصيبهم في الأرض بسبب هذا الحبيب، العذاب والقتل؛ أما نصيبهم في السماء، المكانالأول ”تحت المذبح“.ثلاثون ألفاًبالإسكندرية قُتلوا دفعةً واحدة! ليجلسوا هناك معاً ومع الذين سبقوهم، ينتظرونالعتيدين أن يُقتلوا مثلهم! كلَّت فيهم أيدي القاتلين وما فَتَر الحب الذي فيهمقَيْدَ شعرة. ارتفعت ألسنة النيران للتعذيب أمام عيونهم، فأطفأت رهبَتَها نيرانُالحب المتأجِّجة في قلوبهم. أُمهات أُخذت أطفالهن أمام عيونهن ليُذبحوا أمامهن، فلميبكين ولم يلطمن ولم يُغشَ عليهن من هول المنظر! بل كُنَّ يُشجِّعن أولادهن حتىيحتملوا، لينالوا محبة الشهادة وأكاليلها. إنها محبة، محبة ليستمن هذا الدهر، محبة ليست من لحم ودم! محبة انسكبت في قلوبهن بالروح القدس!!
هذه المحبة كانت تدفعالرجال والنساء، بل وعائلات بأجمعها أن يسيروا على أرجلهم من دمنهور إلىالإسكندرية، لماذا؟
هل ليتنزهواهناك؟ كلاَّ! هل ليشتروا مطالب ضرورية؟ كلاَّ! هل ليبيعوا ويشتروا ويستغنوا؟ كلاَّ! ولكن لماذا؟ اسمع: لماذا؟ ليستشهدوا!!!ذهبوا بأنفسهم علىأرجلهم، لينالوا فخر الشهادة للمسيح ويرحلوا عن هذا العالم، وهم كانوا في الطريقيترنمون كأنهم ذاهبون إلى العيد!هذه هي المحبة، وهؤلاءهم المحبون!
مَن ذا الذي لا يشتهيالمحبة؟
مَن ذا الذي لا يشتاقويتحرك قلبه ليكون للحبيب مُحبّاً ومحبوباً!
وإن اشتهيناها كيف نهدأقبل أن نملكها؟
وإن ملكناها فسوف نغلببها العالم والموت!
«المحبة قوية كالموت» (نش 8: 6).
[ يا إخوتي، ليس لكلماتوعظي القدرة أن تعمل لتوسيع قلوبكم،
فاطلبوا من الله لكيتحبوا بعضكم بعضاً، وهو يُعطيكم] - القديس أُغسطينوس. +
(1956)
منقول